فصل: ثم دخلت سنة أربعين وثلاثمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **


  ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة

مسير المتقي إِلى بغداد وخلعه كان قـد كتـب المتقـي إِلـى الإخشيـد صاحـب مصـر يشكـو إِليـه حالـه ومـا هـو فيـه فسـار الإخشيد من مصر إِلى حلب ثم إِلى الرقة واجتمع بالمتقي وحمل إِليه هدايا عظيمة واجتهد بالمتقـي أن يسيـر معـه إِلـى مصـر أو الشـام ليكـون بيـن يديـه فلم يفعل ثم أشار عليه بالمقام في الرقة وخوفه من تورون فلم يفعل وكان قد أرسل المتقي إِلى تورون في الصلح كما ذكرناه فحلف تـورون للمتقي على ما أراد فانحدر المتقي لأربع بقين من المحرم إِلى بغداد وعاد الإخشيد إِلى مصـر ولمـا وصـل المتقـي إِلى هيت أقام بها وأرسل فجدد اليمين على تورون وسار تورون عن بغـداد لملتقـى الخليفة‏.‏

فالتقاه بالسندية ووكّل عليه حتى أنزله في مضربه ثم قبض تورون على المتقي وسمله وأعمى عينيه فصاح المتقي وصاح مـن عنـده مـن الحـرم والخـدم فأمـر تـورون بضرب الدبادب لئلا تظهر أصواتهن وانحدر تورون بالمتقط إلى بغـداد وهـو أعمـى وكانـت خلافـة المتقـي للـه وهـو إبراهيـم بـن جعفر المقتدر بن المعتضد ثلاث سنين وخمسة أشهر وعشرين يوماً وأمه أم ولد اسمها خلوب‏.‏

  خلافة المستكفي باللّه

وهو ثاني عشرينهم ولما قبض تورون على المتقي بايع المستكفي بالله أبا قاسم عبد الله بن المكتفي بالله علي بن المعتضد أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون وأحضره إِلى السندية وبايعه عامة الناس وكانت بيعة المستكفي بالله يوم خلع المتقي في صفر من هذه السنة‏.‏

خروج أبي يزيد الخارجي بالقيروان وفي هذه السنة اشتدت شوكة أبي يزيد الخارجي وهزم الجيوش وهو رجل من زناتة واسم والده كنداد من مدينة توزر من بلاد قسطيلية‏.‏

فولد له أبو يزيد بتوزر من جارية سوداء وانتشأ أبو يزيد في توزر وتعلم القرآن وسار إلى تاهرت وصار على مذهب النكارية وهو تكفير أهل الملة واستباحة أموالهم ودمائهم ودعا أهـل تلـك البلـاد فأطاعـوه وكثـر جمعـه فحصـر قسطيليـة فـي هذه السنة وكان أبو يزيد قصيراً قبيح الصورة يلبس جبة صوف ثم فتح تبسة ثم سبيبة وصلب عاملها ثم فتح الأريس فأخرج القائم جيوشاً لحفظ رقادة والقيروان فهزمهم أبو يزيد واستولى على تونس ثم على القيروان ورقادة ثم سار أبو يزيد إِلى القائم فجهز إِليه القائم جيشاً فجرى بينهم قتال كثير وآخره أن جيوش القائم انهزمت وسار أبو يزيد وحصر القائم بالمهدية في جمادى الأولى من هذه السنة وضايقها وغلا بها السعر وعدم القوت ودام محاصرها حتى خرجت هذه السنة ثم رحل عن المهديـة فـي صفـر سنـة أربـع وثلاثيـن وثلاثمائـة وسـار إلـى القيـروان وتوفـي القائم وملك ابنه إِسماعيل المنصور على ما نذكره فجهز المنصور العساكر وسار بنفسه إِلى القيروان واستعادها من أبي يزيد وذلك في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ودام حالهم على القتال إِلى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة فهزم المنصور عساكر أبي يزيد وسار المنصور في أثره في ربيع الأول سنة خمس وثلاثين فأدرك أبا يزيد على مدنية كاغلية فهرب أبو يزيد من موضع إِلى آخر حتى وصل طبسـة ثـم هـرب حتـى وصـل إِلى جبل للبربر واسم ذلك الجبل برزال والمنصور في إِثره واشتد على عسكر المنصور الحال حتى بلغت عليقة الشعير ديناراً ونصفاً وبلغت قربة الماء ديناراً فرجع المنصور إِلى بلاد صنهاجة وبلغ إِلى موضع يسمى قرية عمرة واتصل هناك بالمنصور العلـوي الأمير زيري الصنهاجي وهو جد ملوك بني باديس على ما سيأتي ذكرهم إِن شاء الله تعالى‏.‏

فأكرمـه المنصـور غايـة الإكـرام ومـرض المنصـور هنـاك مرضـاً شديـداً ثـم تعافـى ورحـل إِلـى المسيلة ثاني رجب سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وكان قد اجتمع إِلى أبي يزيد جمع من البربر وسبق المنصور إلى مسيلة فلما قدم المنصور إِلى مسيلة هرب عنها أبو يزيد إِلى جهة بلاد السودان ثم صعد أبو يزيد إِلى جبال كتامة ورجع عن قصد بلاد السودان فسار المنصور عاشر شعبان إِليه واقتتلوا في شعبان فقتل غالب جماعة أبي يزيد وانهزم فسار المنصور في إِثره أول شهر رمضان واقتتلوا أيضاً وانهزم أبو يزيد وأخذت أثقاله والتجأ أبو يزيد إِلى قلعة كتامة وهي منيعة فحاصرها المنصور وداوم الزحف عليها ثم ملكهـا المنصـور عنـوة وهـرب أبو يزيد من القلعة من مكان وعر فسقط منه فأخذ أبو يزيد وحمـل إلـى المنصـور فسجـد المنصور شكراً لله تعالى وكثر تكبير الناس وتهليلهم وبقي أبو يزيد في الأسر مجروحاً فمات وذلك في سلخ المحرم سنة ست وثلاثين وثلاثمائة فسلخ جلد أبي يزيد وحشي تبناً وكتب المنصـور إلى سائر البلاد بالفتح وبقتل أبي يزيد لعنه الله وعاد المنصور إِلى المهدية فدخلها في شهر رمضان من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة‏.‏

غير ذلك من الحوادث فـي هـذه السنـة أعني سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة نقل المستكفي القاهر من دار الخلافة إِلى دار أبي طاهر وكان قد بلغ بالقاهر الضر والفقر إِلى أن كان ملتفاً بجبة قطن وفي رجله قبقاب ملك سيف الدولة مدينة حلب وحمص وفي هذه السنة لما سار المتقي عن الرقة إِلى بغداد وسار عنها الإخشيد إلى مصر كما ذكرنـا سار سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان إِلى حلب وبها يأنس المؤنسي فأخذها منه سيـف الدولـة واستولـى عليهـا ثـم سـار مـن حلـب إِلـى حمـص فاستولـى عليهـا ثـم سـار إِلـى دمشـق فحصرهـا ثـم رحل عنها وكان الإخشيد قد خرج من مصر إِلى الشام بسبب قصد سيف الدولـة دمشـق وسـار إِليـه فالتقيـا بقنسريـن ولـم يظفـر أحـد العسكرين بالآخر ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة فلما رجع الإخشيد إِلى دمشق عاد سيف الدولة إِلى حلب فملكها فلما ملكها سارت الروم حتى قاربت حلب فخـرج إِليهـم سيـف الدولة وهزمهم وظفر بهم‏.‏

  ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة

موت تورون فـي هـذه السنة في المحرم مات تورون ببغداد وكانت إِمارته سنتين وأربعة أشهر وتسعة عشر يوماً ولما مات عقد الأجناد لابن شيرزاد الإمرة عليهم وكان بهبت فحضر إِلى بغداد مستهل صفر وأرسل إِلى المستكفي فاستحلفه فحلف له بحضرة القضاة وولاة أمرة الأمراء‏.‏

استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد كان معز الدولة في الأهواز فلما بلغه موت تورون سار إِلى بغداد فلما قرب منها اختفى المستكفي بالله وابن شيرزاد فكانت إِمارته ثلاثة أشهر وأياماً وقدم الحسن بن محمد المهلبي صاحـب معـز الدولـة إِلـى بغـداد وسـارت الأتـراك عنهـا إلـى جهـة الموصـل فظهـر المستكفـي واجتمع بالمهلبي وأظهـر المستكفـي السـرور بقـدوم معـز الدولـة وأعلمـه أنـه استتـر خوفـاً مـن الأتـراك فلمـا سـاروا عـن بغـداد ظهـر ثـم وصـل معـز الدولـة إلـى بغداد ثاني عشر جمادى الأولى من هذه السنة‏.‏

واجتمع بالمستكفي وبايعه وحلف له المستكفي وخلع عليه ولقبه في ذلك اليوم بمعز الدولة وأمر أن تضرب ألقاب بني بويه على الدنانير والدراهـم ونـزل معـز الدولـة بـدار مؤنس وأنزل أصحابه في دور الناس فلحق الناس من ذلك شدة عظيمة ورتب معز الدولة للمستكفي كل يوم خمسة آلاف درهم يتسلمها كاتبه لنفقات المستكفي‏.‏

  خلع المستكفي وخلافة المطيع

وفـي هـذه السنـة خلـع المستكفـي باللـه أبـو القاسـم عبـد اللـه بـن المكتفـي علـي بن المعتضد بن الموفق لثمان بقين من جمادى الآخرة وصورة خلعه أن معز الدولة وعسكره والناس حضروا إِلى دار الخليفة بسبب وصول رسول صاحب خراسان فأجلس الخليفة معز الدولة على كرسي ثم حضر رجلان من نقباء الديلم وتناولا يد المستكفي بالله فظـن أنهمـا يريـدان تقبيلهـا فجذبـاه عن سريره وجعلا عمامته في عنقه ونهض معز الدولـة فاضطـرب النـاس وساقـا المستكفـي ماشياً إِلى دار معز الدولة فاعتُقل بها ونُهبت دار الخلافة حتى لم يبق بها شيء وكانت مدة خلافة المستكفي سنة وأربعة أشهر ولما بويع المطيع سلم إليه المستكفي فسمله وأعماه وبقي محبوساً إِلى أن مات وأمه أم ولد اسمها غصن‏.‏

ولما قُبض المستكفي بويع المطيع لله وهو ثالث عشرينهم واسمه المفضل بن المقتدر في يوم الخميـس ثانـي عشريـن مـن جمادى الآخر من هذه السنة أعني سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وازداد أمر الخلافة إِدباراً ولم يبق لهم من الأمر شيء وتسلم نواب معز الدولة العراق بأسره ولم يبق في يد الخليفة غير ما أقطعه معز الدولة للخليفة مما يقوم ببعض حاجته‏.‏

في هذه السنة سار ناصر الدولة إِلى بغداد وأرسل معز الدولة عسكراً لقتاله فلم يقدروا على دفعه وسار ناصـر الدولـة مـن سامـراء عاشـر رمضـان إِلـى بغـداد وأخـذ معـز الدولـة المطيع معه وسارا إِلى تكريت فنهبها لأنها كانت لناصر الدولة وعاد معز الدولة بالخليفة إِلى بغداد ونزل بالجانب الغربي ونزل ناصر الدولة بالجانب الشرقي ولم يخطب تلك الأيام للمطيع ببغداد وجرى بينهم ببغداد قتال كثير آخره أن ناصر الدولة وعسكره انهزموا واستولى معز الدولة على الجانب الشرقي وأعيد الخليفة إلى مكانه في المحرم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة واستقر معز الدولة ببغداد وناصر الدولة بعكبرا ثم سار ناصر الدولة إِلى الموصل واستقر الصلح بين معز الدولة وناصر الدولة في المحرم من سنة خمس وثلاثين‏.‏

وفاة القائم العلوي وولاية المنصور فـي هـذه السنـة توفـي القائـم بأمـر اللـه أبـو القاسـم محمـد بـن المهـدي عبيد الله صاحب المغرب لثلاث عشرة مضت من شوال وقام بالأمر بعده ابنه إِسماعيل بن محمد وتلقب بالمنصور بالله وكتم موت القائم خوفاً من أبي يزيد الخارجي واستمر كتمان ذلك حتى فرغ المنصور من أمر أبي يزيد الخارجي على ما ذكرناه ثم اتسم بالخلافة وضبط الملك والبلاد‏.‏

موت الإخشيد وملك سيف الدولة دمَشْق في هذه السنة مات الإخشيد بدمشق وكان قد سار إِليها من مصر وهو محمد بن طغج صاحـب مصـر ودمشـق وكـان مولـده سنة ثمان وستين ومائتين ببغداد وكان الإخشيد قبل مسيره عن مصر قد وجد بداره رقعة مكتوب عليها قدّرتم فأسأتم وملكتم فبخلتم ووسع عليكم فضيقتم وأدرت لكم الأرزاق فقنطتم أرزاق العباد واغتررتم بصفو أيامكم ولم تتفكروا فـي عواقبكـم واشتغلتـم بالشهـوات واغتنـام اللـذات وتهاونتـم بسهـام الأسحار وهن صائبات ولا سيما إن خرجت من قلوب قرحتموها وأكباد أجعتموها وأجساد أعريتموها ولو تأملتم فـي هذا حق التأمل لانتبهتم أو ما علمتم أن الدنيا لو بقيت للعاقـل مـا وصـل إليهـا الجاهـل ولـو دامت لمن مضى ما نالها من بقي فكفى بصحبة ملك يكون ملكه في زوال ملكه فرح للعالم ومن المحال أن يموت المنتظرون كلهم حتى لا يبقى منهم أحد ويبقى المنتظر به افعلوا ما شئتم فإنا صابرون وجوروا فإنا بالله مستجيرون وثقوا بقدرتكم وسلطانكم فإنا بالله واثقون وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏

فبقـي الإخشيـد بعـد سمـاع هـذه الرقعـة فـي فكـر وسافـر إلـى دمشـق ومـات وولـي الأمـر بعـده ابنـه أبـو القسـم أنوجـور وتفسيـره محمـود واستولـى علـى الأمـر كافـور الخـادم الأسـود وهـو من خدم الإخشيد وكان أنوجور صغيراً وسار كافور بعد مـوت الإخشيـد إِلـى مصـر فسـار سيـف الدولة إِلى دمشـق وملكهـا وأقـام بهـا واتفـق أن سيـف الدولـة ركـب يومـاً والشريـف العقيقـي معه فقال سيف الدولة‏:‏ ما تصلح هذه الغوطة إِلا لرجل واحد‏.‏

فقـال لـه العقيقـي‏:‏ هي لأقوام كثيرة‏:‏ فقال سيف الدولة‏:‏ لو أخذتها القوانين السلطانية لتبرؤا منها فأعلم العقيقي أهل دمشق بذلك فكاتبوا كافوراً يستدعونه فجاءهم فأخرجوا سيف الدولة عنهم‏.‏

ثم استقـر سيـف الدولـة بحلـب ورجـع كافـور إِلـى مصـر وولـى علـى دمشـق بـدراً الإِخشيدي فأقام سنة ثم وليها أبو المظفر بن طغج‏.‏

غير ذلك من الحوادث فيها اشتد الغلاء وعُدمَ القوت ببغداد حتى وجد مع إِنسان صبي قد شواه ليأكله وكثر في النـاس المـوت وفيهـا توفـي علـي بـن عيسـى بـن الجـراح الوزيـر ولـه تسعـون سنـة‏.‏

وفيها توفي عمر بن الحسيـن الخرقـي الحنبلـي وأبـو بكـر الشبلـي الصوفي وكان أبو الشبلي حاجباً للموفق أخي المعتمد وحجب الشبلي أيضاً للموفق ثم تاب وصحب الفقراء حتى صار واحد زمانه فـي الديـن والورع وكان الشبلي المذكور مالكي المذهب حفظ الموطأ وقرأ كتب الحديث وقـال الجنيـد عنـه‏:‏ لكـل قـوم تـاج وتـاج القـوم الشبلـي‏.‏

وفيها توفي محمد بن عيسى ويعرف بأبي موسى الفقية الحنفي‏.‏

  ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة

فيها توفي أبو بكر الصولي وكان عالماً بفنون الأدب والأخبـار روى عـن أبي العباس ثعلب وغيره وروى عنه الدار قطني وغيره وللصولي التصانيف المشهورة‏.‏

  ثم دخلت سنة سـت وثلاثيـن وثلاثمائة

فيها عقد المنصور العلوي ولاية جزيرة صقلية للحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي من تاريخ جزيرة صقلية تأليف صاحب تاريخ القيروان واستمر الحسـن بـن علـي يغـزو ويفتـح فـي جزيـرة صقلية حتى مات المنصور وتولى المعز فاستخلف الحسن علـى صقليـة ولـده أبـا الحسيـن أحمد ابن الحسن فكانت ولاية الحسن بن علي على صقلية خمس سنيـن ونحـو شهرين وسار الحسن عن صقلية إِلى إِفريقية في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة ولما وصـل الحسـن إِلـى إِفريقيـة كتـب المعز بولاية ابنه أحمد بن الحسن على صقلية فاستقر أحمد والياً عليهـا‏.‏

وفـي سنـة سبـع وأربعيـن وثلاثمائـة قـدم أحمـد بـن الحسـن مـن صقليـة ومعه ثلاثون رجلاً من وجوه الجزيرة على المعز بإِفريقية فبايعوا المعز وخلع عليهم المعز ثم أعاده إِلى مقره بصقلية وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة ورد كتاب المعز على الأمير أحمد بصقلية يأمره فيه يإِحصاء أطفال الجزيرة وأن يختنهم ويكسوهم في اليوم الذي يطهر فيه المعز ولده فكتب الأمير أحمد خمسـة عشـر ألـف طفـل وابتـدأ أحمـد فختـن أخوتـه فـي مستهـل ربيع الأول من هذه السنة ثم ختن الخاص والعام وخلـع عليهـم ووصـل مـن المعـز مائـة ألـف درهـم وخمسـون حمـلا مـن الصلـات ففرقـت فـي المختونيـن وفـي سنـة اثنتيـن وخمسيـن وثلاثمائـة أرسل الأمير أحمد بسبي طبرمين بعد فتحها إِلى المعز وجملته ألف وسبع مائة ونيف وسبعـون رأسـاً وفـي سنـة ثلـاث وخمسيـن وثلاثمائة جهز المعز أسطولاً عظيماً وقدم عليهم الحسن بن علي بن الحسين والد الأمير أحمد فوصل إِلى صقلية واجتمعت الروم بها وجرى بينهم قتال شديد نصر الله فيه المسلمين وقتل مـن الكفـار فوق عشرة آلاف نفس وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم فكان في جملة ذلك عليه منقوش‏:‏ ‏(‏هذا سيف هندي وزنه مائة وسبعون مثقالاً طالما ضرب به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث به الحسن بن علي إِلى المعز وكذلك بعدة من الأسرى والسلاح وسـار الحسـن بعـد هـذا النصـر وأقـام بقصـره بصقليـة ولحقـه المـرض حتى توفي في ذي القعدة سنة ثلـاث وخمسيـن وثلاثمائـة وكـان عمـره ثلاثاً وخمسين سنة وفي أواخر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة استقدم المعز الأمير أحمد من صقلية وسار منها بأهله وماله وولده فكانت إمارته بها ست عشـرة سنـة وتسعـة أشهـر ولمـا سـار أحمـد عنهـا استخلـف علـى الجزيـرة يعيـش مولـى أبيه الحسن بن علي فلما وصل أحمد إِلى إِفريقية أرسل المعز أبا القاسم علي بن الحسن بن علي أخا الأمير أحمد المذكور وولاه الجزيرة نيابة عن أخيه أحمد فوصل أبو القاسم إِلى صقلية في منتصف شعبان سنة تسع وخمسين وثلاثمائـة‏.‏

وفـي سنـة تسـع وخمسيـن وثلاثمائـة قـدم المعـز الأميـر أحمـد علـى الأسطول وأرسله إِلى مصر فلما وصل إِلى طرابلس اعتل أحمد بن الحسن المذكور ومات بها وفـي سنـة ستيـن وثلاثمائـة أرسـل المعـز إِلـى أبـي القاسـم سجـلاً باستقلالـه بولايـة صقليـة وتعزيته في أخيـه أحمـد وفـي سنـة سـت وستيـن وثلاثمائـة غـزا الأميـر أبـو القاسـم علـي وعـاد إِلـى الـأرض الكبيرةْ ونزل بموضع يعرف بالأبرجة فرأى عسكره قد أكثروا من جمع البقر والغنم فأنكر ذلك وقال‏:‏ لقد أثقلتم وهذا يعيقنا عن الغزو فأمر بذبحها وتفريقها فسميت تلك المرحلة مناخ البقر إِلى الآن وشنت غاراته في الأرض الكبيرة وأخرب فيها مدناً ثم عاد إلى صقلية مؤيداً منصوراً واستمـر أبـو القاسـم يغـزو إِلـى سنـة اثنتيـن وسبعيـن وثلاثمائـة فجـرى بينـه وبيـن الفرنج قتال استشهد فيـه أبـو القاسـم ولذلـك يعـرف بالشهيد وكان مقتله في المحرم من السنة المذكور ومدة ولايته على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وأياماً‏.‏

ولمـا استشهـد أبـو القاسم تولى الأمر بعده ابنه جابر بن أبي القاسم بغير ولاية من الخليفة وكان جابر المذكور سـيء التدبيـر وفـي سنـة ثلـاث وسبعيـن وثلاثمائـة وصـل إلـى صقليـة جعفـر بـن محمـد بـن الحسيـن بـن علـي بـن أبي الحسين أميراً عليها من قبل العزيز خليفة مصر فاغتم جابر لذلك غماً عظيماً وكان جعفر المذكور مواظباً للعزيز خليفة مصر قريباً إِليه جداً وكان للعزيز وزير يقال له ابن كلس فغار من جعفر فلما استشهد أبو القاسم أشار ابن كلس بتولية جعفر فأرسله العزيز إِليها فسار جعفر إِلى صقلية وهو كاره لذلك وبقي جعفر والياً على صقلية حتى مات في سنـة خمـس وسبعيـن وثلاثمائـة فولـى أخـوه عبـد اللـه بـن محمـد بـن الحسـن بـن علـي بـن أبـي الحسيـن وبقي عبـد اللـه حتـى توفـي فـي سنـة تسـع وسبعيـن وثلاثمائـة وتولـى بعـده ولـده أبـو الفتـوح يوسـف بـن عبد الله وأحسن يوسف المذكور السيرة وبقي على ولايته ومات العزيز خليفة مصر وتولى الحاكم واستوزر ابن عم يوسف المذكور وهو حسن بن عمار بن علي بن أبي الحسين وبقي حسن وزيراً بمصر وابن عمه يوسف أميراً بصقلية وفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة أصاب أبا الفتوح يوسف بن عبد الله فالج فعطب جانبه الأيسر فتولى في حياته ابنه جعفر ابن يوسف وأتاه سجل من الحاكم بالولاية ولقبه تاج الدولة فبقي مدة ثم أحدث على أهل صقلية مظالم فخرجوا عن طاعته وحصروا جعفر المذكور في القصر فخرج إِليهم والده يوسف وهو مفلوج في محفة ورد الناس وشرط لهم عزل جعفر فعزله وولـى موضعـه أخـاه تأييـد الدولـة أحمـد الأكحل بن يوسف وانعزل جعفر وتولى الأكحل في المحرم سنة عشر وأربع مائة وبقي الأكحل حتى خرج عليه أهل صقلية وقتلوه في سنة سبع وعشرين وأربع مائة ولما قتلوا الأكحل ولوا أخاه الحسن صمصام الدولة فجرى في أيامه اختلاف بين أهل الجزيرة وتغلبت الخوارج عليه

  ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة

وفي هذه السنة ملك معز الدولة الموصل وسار عنها ناصـر الدولـة إِلى نصيين ثم جاءت الأخبار بحركة عسكر خراسان على بلاد معز الدولة فرحل عن الموصل وعاد إِليها ناصر الدولة‏.‏

  ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة

  موت عماد الدولة بن بويه

وفي هذه السنة مات عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه بشيراز في جمادى الآخرة وكانت علته قرحة في كلاه طالت به وتوالت به الأسقام ولم يكن لعماد الدولة ولد ذكر فلما أحس بالموت أرسل إِلى أخيه ركن الدولة يطلب منه ابنه عضـد الدولـة فناخسـرو ليجعلـه عمـاد الدولة ولي عهده وارث مملكته بفارس وكان ذلك قبل موته بسنة ووصل عضد الدولة إِلى عمه عماد الدولة فولاه عماد الدولة مملكته في حياته وأمر الناس بالانقياد إِلى عضد الدولة ولما مات عماد الدولة بقي ابن أخيه عضد الدولة بفارس‏.‏

واختلف عليه عسكره فسار أبوه ركن الدولة من الري إِليه وقرر قواعد عضد الدولـة ولمـا وصـل ركـن الدولـة شيـراز ابتـدأ بزيارة قبر أخيه عماد الدولة باصطخر فمشى إِليه حافياً حاسراً ومعه العساكر على تلك الحـال ولـزم القبر ثلاثة أيام إِلى أن سأله القواد والأكابر الرجوع إِلى المدينة فرجع إِليها وكان عماد الدولة في حياته هو أمير الأمراء فلما مات صار أخوه ركن الدولة أمير الأمراء وكان معز الدولة هو المستولي على العراق وهو كالنائب عنهما‏.‏

وفي هذه السنة مات المستكفي المخلوع وهو في الحبس أعمى‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة

في هذه السنة مات وزير معز الدولة محمد الصيمري واستوزر معز الدولة أبا محمد الحسن المهلبي‏.‏

وفي هذه السنة غزا سيف الدولة بلاد الروم فأوغل فيها وغنم وقتل فلما عاد أخذت الروم عليه المضائق فهلك غالب عسكره وما معه ونجـا سيـف الدولـة بنفسـه فـي عـدد يسير‏.‏

وفي هذه السنة أعادت القرامطة الحجر الأسود إلى مكة وكان قد أخذوه سنة سبع عشرة وثلاثمائة فكان لبثه عندهم اثنين وعشرين سنة‏.‏

غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي أبو نصر محمد بن طرخان الفارابي الفيلسوف وكان رجلاً تركياً ولد بفاراب التي تسمى هذا الزمان أُطرار بضم الهمزة وسكون الطاء المهملة وبين الرائين المهملتين ألف وهي من المدن العظام سافر الفارابي من بلده حتى وصل إِلى بغداد وهو يعرف اللسان التركـي وعـدة لغـات فشـرع فـي اللسـان العربـي فتعلمـه وأتقنـه ثـم اشتغل بعلوم الحكمة واشتغل على أبـي بشـر متـى بـن يونـس الحكيـم المشهـور فـي المنطـق وأقـام الفارابـي علـى ذلك برهة ثم ارتحل إِلى مدينة حران واشتغل بها على أبي حيا الحكيم النصراني ثـم قفـل إلـى بغـداد وأتقـن علـوم الفلسفة وحل كتب أرسطو وأتقن علم الموسيقى وألف ببغداد معظم تصانيفه‏.‏

ثم سافر إِلى دمشـق ولـم يقـم بهـا وسافـر إِلـى مصـر ثـم عـاد إِلـى دمشـق وأقام بها في أيام ملك سيف الدولة بن حمدان فأحسن اليد وكان على زي الأتراك لم يغير ذلـك وحضـر يومـاً عنـد سيـف الدولـة بدمشق بحضرة فضلائها فما زال كلـام الفارابـي يعلـو وكلامهـم يسفـل حتـى صمـت الكـل ثـم أخذوا يكتبون ما يقوله وكان الفارابي منفرداً بنفسه لا يجالـس النـاس وكـان فـي مـدة مقامـه بدمشق لا يكون إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض وكان أزهد الناس في الدنيا وأجرى عليـه سيـف الدولـة كـل يوم أربعة دراهم فاقتصر علمها ولم يزل مقيماً بدمشق إلى أن توفي بها وقد ناهز ثمانين سنة ودفن خارج الباب الصغير‏.‏

وفي هذه السنة مات الزجاجي النحوي وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن إِسحاق صحـب إِبراهيم بن السري الزجّاج فنسب إِليه وعرف به وكان إِمام وقته وصنف الجمل في النحو‏.‏

  ثم دخلت سنة أربعين وثلاثمائة

في هذه السنة توفي عبد الله بن الحسين الكرخي الفقيه المشهور الحنفي المعتزلـي وكـان عابـداً ومولـده سنـة ستيـن ومائتيـن وأبـو جعفـر الفقيـه توفـي ببخارى‏.‏

وفيهـا توفـي أبـو إِسحـاق إِبراهيـم بـن أحمـد بن إسحاق المروزي الفقيه الشافعي بمصر وانتهت إِليه الرئاسة بالعراق بعد ابن سريج وصنف كتباً كثيرة وشرح مختصر المزني‏.‏

  ثم دخلت سنة إِحـدى وأربعيـن وثلاثمائة

في هذه السنة سار يوسف بن وجيه صاحب عمان في البحر والبر إِلى البصرة وحصرها وساعده القرامطة على ذلك وأمدوه بجمع منهم وأقاموا هناك أياماً فأدركهم المهلبي وزير معز الدولة بالعساكر فرحلوا عنها‏.‏

  وفاة المنصور العلوي

وفي هذه السنة توفي المنصور بالله العلوي أبو طاهر إِسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمـد بـن عبيـد اللـه المهـدي سلـخ شـوال وكانـت خلافتـه سبـع سنيـن وستة عشر يوماً‏.‏

وكان عمره تسعـاً وثلاثيـن سنـة وكـان خطيبـاً بليغـاً يختـرع الخطبـة لوقتـه وظهـر من شجاعته في قتال أبي يزيد الخارجي ما تقدم ذكره وعهد إِلى ابنه أبي تميم معد بن المنصور إسماعيل بولاية العهد وهو معـد المعـز لديـن اللـه فبايعـه النـاس فـي يـوم مـات أبـوه فـي سلـخ شـوال مـن هـذه السنة وأقام في تدبير الأمور إِلى سابع ذي الحجة فأذن للناس فدخلوا إِليه وسلموا عليه بالخلافة وكان عمر المعز إِذا ذاك أربعاً وعشرين سنة‏.‏

غير ذلك من الحوادث وفـي هذه السنة ملك الروم مدينة سروج وسبوا أهلها وغنموا أموالهم وخربوا المساجد‏.‏

وفيها توفـي أبـو علي إِسماعيل بن محمد بن إِسماعيل الصفار النحوي المحدث وهو من أصحاب المبرد وكان مولده سنة سبع وأربعين ومائتين وكان ثقة‏.‏